فصل: ذكر ولاية ابن سهلان العراق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الحرب بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس:

قد ذكرنا أن الملك سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس بن بهاء الدولة كرمان، فلما وليها اجتمع إليه الديلم، وحسنوا له محاربة أخيه وأخذ البلاد منه، فتجهز وتوجه إلى شيراز، فلم يشعر سلطان الدولة حتى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس، وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها، فخرج منها هارباً إلى خراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وهو ببست فأكرمه وعظمه، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا: نحن أعظم محلاً منهم لأن أباه وأعمامه خدموا آبائي؛ فقال محمود: لكنهم أخذوا الملك بالسيف؛ أراد بهذا نصرة نفسه حيث أخذ خراسان من السامانية، ووعد محمود أن ينصره.
ثم إن أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه، فقال له: من غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس، وقيمتهما ستون ألف دينار. ثم إن محموداً سير جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان، مقدمهم أبو سعد الطائي، وهو من أعين قواده، فسار إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سلطان الدولة إلى بغداد، فدخل شيراز.
فلما سمع سلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هناك واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس، وقتل كثير من أصحابه، وعاد بأسوإ حالٍ، وملك سلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سنة ثمان وأربعمائة إلى كرمان، فسير سلطان الدولة الجيوش في أثره، فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب همذان، ولم يمكنه العود إلى يمين لدولة، لأنه أساء السيرة مع أبي سعد الطائي.
ثم فارق شمس الدولة، ولحق بمهذب الدولة، صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالاً وثياباً، وعرض عليه الانحدار إليه فلم يفعله، وترددت الرسل بينه وبين سلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان، وسيرت إليه الخلع والتقليد بذلك، وحملت إليه الأموال، فعاد إليها.

.ذكر قتل الشيعة بإفريقية:

في هذه السنة، في المحرم، قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية.
وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر؛ فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو حومة تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم.
وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع إفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به، فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم.
وكانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبدالله الشيعي، وكان من المشرق، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة، فمن فرحٍ مسرورٍ ومن باكٍ حزينٍ.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، احترقت قبة مشهد الحسين والأروقة، وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين، فسقطتا في الليل على التازير فاحترق وتعدت النار؛ وفيه أيضاً احترق نهر طابق، ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سر من رأى.
وفيها تشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقط حائط بين يدي حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ووقعت القبة الكبيرة على الصخرة بالبيت المقدس.
وفيها كانت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة بواسط، فانتصر السنة وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بن مزيد فاستنصروه.
وفيها، في رجب، مات محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل أبو الحسين الضبي القاضي المعروف بابن المحاملي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وكبار المحدثين؛ مولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة؛ ومحمد بن الحسين بن محمد ابن الهيثم أبو عمر البسطامي، الواعظ، الفقيه، الشافعي، ولي قضاء نيسابور. ثم دخلت:

.سنة ثمان وأربعمائة:

.ذكر خروج الترك من الصين وموت طغان خان:

في هذه السنة خرج الترك من الصين في عدد كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاة من أجناس الترك، منهم الخطابية الذين ملكوا ما وراء النهر، وسيرد خبر ملكهم إن شاء الله تعالى.
وكان سبب خروجهم أن طغان خان لما ملك تركستان مرض مرضاً شديداً، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد لذلك فساروا إليها وملكوا بعضها وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون ثمانية أيام، فلما بلغه الخبر كان بها مريضاً، فسأل الله تعالى أن يعافيه لينتقم من الكفرة، ويحمي البلاد منهم، ثم يفعل به بعد ذلك ما أراد، فاستجاب الله له وشفاه، فجمع العساكر، وكتب إلى سائر بلاد الإسلام يستنفر الناس، فاجتمع إليه من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألفاً، فلما بلغ الترك خبر عافيته وجمعه العساكر وكثرة من معه عادوا إلى بلادهم، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب والخركاهات وغير ذلك من الأواني الذهبية والفضية ومعمول الصين ما لا عهد لأحدٍ بمثله، وعاد إلى بلاساغون، فلما بلغها عاوده مرضه فمات منه.
وكان عادلاً، خيراً، ديناً، يحب العلم وأهله، ويميل إلى أهل الدين، ويصلهم ويقربهم، وما أشبه قصته بقصة سعد بن معاذ الأنصاري، وقد تقدمت في غزوة الخندق، وقيل: كانت هذه الحادثة مع أحمد بن علي قراخان، أخي طغان خان، وإنها كانت سنة ثلاث وأربعمائة.

.ذكر ملك أخيه أرسلان خان:

لما مات طغان خان ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، فخالف عليه قدر خان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان الذي ملك بخارى، وقد تقدم ذكره، وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، فكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان خان، فعقد على جيحون جسراً من السفن، وضبطه بالسلاسل، فعبر عليه، ولم يكن يعرف هناك قبل هذا، وأعانه على أرسلان خان.
ثم إن يمين الدولة خافه، فعاد إلى بلاده، فاصطلح قدر خان وأرسلان خان على قصد بلاد يمني الدولة واقتسامها، وسار إلى بلخ.
وبلغ الخبر إلى يمين الدولة، فقصدهما، واقتتلوا، وصبر الفريقان، ثم انهزم الترك وعبروا جيحون، فكان من غرق منهم أكثر ممن نجا.
وورد رسول متولي خوارزم إلى يمين الدولة يهنئه بالفتح عقيب الوقعة، فقال له: من أين علمتم؟ فقال: من كثرة القلانس التي جاءت على الماء؛ وعبر يمين الدولة، فشكا أهل تلك البلاد إلى قدر خان ما يلقون من عسكر يمين الدولة، فقال: قد قرب الأمر بيننا وبين عدونا، فإن ظفرنا منعنا عنكم، وإن ظفر عدونا فقد استرحتم منا. ثم اجتمع هو وقدر خان، وأكلا طعاماً. وكان قدر خان عادلاً حسن السيرة، كثير الجهاد، فمن فتوحه ختن، وهي بلاد بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء، وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها، وكان يديم لصلاة في الجماعة.
ولما توفي خلف ثلاثة بنين منهم: أبو شجاع أرسلان خان، وكان له كاشغر، وختن، وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان لقبه شرف الدولة، ولم يشرب الخمر قط، وكان ديناً، مكرماً للعلماء وأهل الدين، فقصدوه من كل ناحية، فوصلهم وأحسن إليهم، وخلف أيضاً بغراخان ابن قدر خان، وكان له طراز واسبيجاب فقدم أخوه أرسلان وأخذ مملكته، فتحاربا، فانهزم أرسلان خان وأخذ أسيراً، فأودعوه الحبس، وملك بلاده.
ثم إن بغراخان عهد بالملك لولده الأكبر، واسمه حسين جغري تكين، وجعله ولي عهده، وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير، فغاظها ذلك، فعمدت إليه وسمته فمات هو وعدة من أهله، وخنقت أخاه أرسلان خان ابن قدر خان، وكان ذلك سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه، وملكت ابنه، واسمه إبراهيم، وسيرته في جيش إلى مدينة تعرف ببرسخان، وصاحبها يعرف بينالتكين، فظفر به ينالتكين وقتله، وانهزم عسكره إلى أمه، واختلف أولاد بغراخان، فقصدهم طفغاج خان صاحب سمرقند.

.ذكر ملك طفغاج خان وولده:

وكان طفغاج خان أبو المظفر إبراهيم بن نصر ايلك يلقب عماد الدولة، وكان بيده سمرقند وفرغانة، وكان أبوه زاهداً متعبداً، وهو الذي ملك سمرقند، فلما مات ورثه ابنه طفغاج، وملك بعده، وكان طفغاج متديناً لا يأخذ مالاً حتى يستفتي الفقهاء، فورد عليه أبو شجاع العلوي الواعظ، وكان زاهداً، فوعظه وقال له: إنك لا تصلح للملك. فأغلق طفغاج بابه، وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد وقالوا: قد أخطأ هذا، والقيام بأمورنا متعين عليه. فعند ذلك فتح بابه، ومات سنة ستين وأربعمائة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد قصد بلاده ونبها أيام عمه طغرلبك، فلم يقابل الشر بمثله، وأرسل رسولاً إلى القائم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين يهنئه، بعوده إلى مستقره، ويسأل التقدم إلى ألب أرسلان بالكف عن بلاده، فأجيب إلى ذلك، وأرسل إليه الخلع والألقاب، ثم فلج سنة ستين.
وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك، فقصده أخوه طغان خان ابن طفغاج، وحصره بسمرقند، فاجتمع أهلها إلى شمس الملك، وقالوا له: قد خرب أخوك ضياعنا وأفسدها، ولو كان غيره لساعدناك، ولكنه أخوك فلا ندخل بينكما؛ فوعدهم المناجزة، وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام معدين، وكبس أخاه، وهو غير محتاطٍ، فظفر به، فهزمه، وكان هذا وأبوهما حي.
ثم قصده هارون بغراخان بن يوسف قدر خان، وطغرل قراخان، وكان طفغاج قد استولى على ممالكهما، وقاربا سمرقند، فلم يظفرا بشمس الملك، فصالحاه وعادا فصارت الأعمال المتاخمة لجيحون لمشس الملك، وأعمال الخاهر في أيديهما، والحد بينهما خجندة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد تزوج ابنة قدر خان، وكانت قبله عند مسعود ابن محمود بن سبكتكين، وتزوج شمس الملك ابنة ألب أرسلان، وزوج بنت عمه عيسى خان من السلطان ملكشاه، وهي خاتون الجلالية أم الملك محمود الذي ولي السلطنة بعد أبيه، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف ألب أرسلان وشمس الملك، وسنذكره سنة خمس وستين عند قتل ألب أرسلان؛ ثم مات شمس الملك، فولي بعده أخوه خضر خان، ثم مات، فولي ابنه أحمد خان، وهو الذي قبض عليه ملكشاه، ثم أطلقه وأعاده إلى ولايته سنة خمس وثمانين، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى.
ثم إن جنده ثاروا به فقتلوه وملك بعده محمود خان، وكان جده من ملوكهم، وكان أصم، فقصده طغان خان بن قراخان، صاحب طراز، فقتله واستولى على الملك، واستناب بسمرقند أبا المعالي محمد بن زيد العلوي البغدادي، فولي ثلاث سنين، ثم عصى عليه، فحاصره طغان خان، وأخذه وقتله، وقتل خلقاً كثيراً معه.
ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان، فلقيه السلطان سنجر وطفر به وقتله وصارت أعمال ما وراء النهر له، فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين ابن إبراهيم بن طفغاج خان، فأخذها منه عمر خان، وملك سمرقند، ثم هرب من جنده وقصد خوارزم فظفر به السلطان سنجر فقتله وولي سمرقند محمد خان وولي بخارى محمد تكين بن طغانتكين.

.ذكر كاشغر وتركستان:

وأما كاشغر، وهي مدينة تركستان، فإنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدر خان، كما ذكرنا، ثم صارت بعد لمحمود بغراخان، صاحب طراز والشاش، خمسة عشر شهراً، ثم مات فولي بعده طغرل خان بن يوسف قدر خان، فاستولى على الملك، وملك بلاساغون، وكان ملكه ست عشرة سنة ثم توفي.
وملك ابنه طغرلتكين، وأقام شهرين، ثم أتهى هارون بغراخان أخو يوسف طغرلخان بن طفغاج بغراخان، وعبر كاشغر، وقبض على هارون، وأطاعه عسكره، وملك كاشغر، وختن، وما يتصل بهما إلى بلاساغون، وأقام مالكاً تسعاً وعشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد ابن أرسلان خان، وأرسل رسولاً إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب، فأرسل إليه ما طلب، ولقبه نور الدولة.

.ذكر وفاة مهذب الدولة وحال البطيحة بعده:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي مهذب الدولة أبو الحسن علي ابن نصر، ومولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهو الذي نزل عليه القادر بالله.
وكان سبب موته أنه افتصد، فانتفخ ساعده، ومرض منه، واشتد مرضه. فلما كان قبل وفاته بثلاثة أيام تحدث الجند بإقامة ولده أبي الحسين أحمد مقامه، فبلغ ابن أخت مهذب الدولة، وهو أبو محمد عبدالله بن يني، فاستدعى الديلم والأتراك، ورغبهم ووعدهم، واستحلفهم لنفسه، وقرر معهم القبض على أبي الحسين بن مهذب الدولة وتسليمه إليه، فمضوا إليه ليلاً وقالوا له: أنت ولد الأمير، ووارث الأمر من بعده، فلو قمت معنا إلى دار الإمارة ليظهر أمرك وتجتمع الكلمة عليك لكان حسناً.
فخرج من داره معهم، فلما فارقها قبضوا عيه وحملوه إلى أبي محمد، فسمعت والدته، فدخلت إلى مهذب الدولة قبل موته بيوم فأعلمته الخبر، فقال: أي شيء أقدر أعمل وأنا على هذه الحال؟ وتوفي من الغد، وولي الأمر أبو محمد، وتسلم الأموال والبلد، وأمر بضرب أبي الحسين بن مهذب الدولة، فضرب ضرباً شديداً توفي منه بعد ثلاثة أيام من موت أبيه.
وبقي أبو محمد أميراً إلى منتصف شعبان، وتوفي بالذبحة، وكان قد قال قبل موته: رأيت مهذب الدولة في المنام وقد مسك حلقي ليخنقني، ويقول: قتلت ابني أحمد، وقابلت نعمتي عليك بذاك. فمات بعد أيام، فكان ملكه أقل من ثلاثة أشهر.
فلما توفي اتفق الجماعة على تأمير أبي عبدالله الحسين بن بكر الشرابي، وكان من خواص مهذب الدولة فصار أمير البطيحة، وبذل للملك سلطان الدولة بذولاً، فأقره عليها، وبقي إلى سنة عشر وأربعمائة، فسير إليه سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فملك البطيحة، وأسر أبا عبدالله الشرابي، فبقي عنده أسيراً إلى أن توفي صدقة وخلص، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر وفاة علي بن مزيد وإمارة ابنه دبيس:

في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي، وقام بعده ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وكان أبوه قد جعله ولي عهده في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته، فلما توفي والده اختلفت العشيرة على دبيس، فطلب أخوه المقلد بن أبي الحسن علي الإمارة، وسار إلى بغداد، وبذل للأتراك بذولاً كثيرة ليعاضدوه، فسار معه منهم جمع كثير، وكبسوا دبيساً بالنعمانية ونهبوا حلته، فانهزم إلى نواحي واسط، وعاد الأتراك إلى بغداد، وقام الأثير الخادم بأمر دبيس، حتى ثبت قدمه، ومضى المقلد أخوه إلى بني عقيل، ونذكر باقي أخباره موضعها إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فانحدروا إلى واسط، فخرج إليهم عامتها وأتراكها، فقاتلوهم، فدفع الديلم عن أنفسهم، وقتلوا من أتراك واسط وعامتها خالقاً كثيرة، وعظم أمر العيارين ببغداد، فأفسدوا ونهبوا الأموال.
وفيها توفي الحاجب أبو طاهر سباشي المشطب وكان كثير المعروف؛ وأبو الحسن الهماني، وكان متولي البصرة وغيرها، وهو الذي مدحه مهيار بقوله:
أستنجدُ الصَّبْرَ فيكم وهو مغلوب

وفيها قدم سلطان الدولة بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تجربه عادة إنما كان عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات.
وفيها هرب ابن سهلان من سلطان الدولة إلى هيت وأقام عند قرواش، وولى سلطان الدولة موضعه أبا القاسم جعفر بن أبي الفرج بن فسانجس، ومولده ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ من الشيعة وبين غيرهم من السنة اشتدت.
وفيها استناب القادر بالله المعتزلة والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم، ونهى من المناظرة في شيء منها، ومن فعل ذلك نكل به وعوقب. ثم دخلت:

.سنة تسع وأربعمائة:

.ذكر ولاية ابن سهلان العراق:

في هذه السنة عرض سلطان الدولة على الرخجي ولاية العراق، فقال: ولاية العراق تحتاج إلى من فيه عسف وخرق، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه ها هنا. فولاه سلطان الدولة العراق في المحرم، فسار من عند سلطان الدولة، فلما كان ببعض الطريق ترك ثقله، والكتاب، وأصحابه، وسار جريدة في خمسمائة فارس مع طراد بن دبيس الأسدي، يطلب مهارش ومضراً ابني دبيس، وكان مضر قد قبض قديماً عليه بأمر فخر الملك، فكان يبغضه لذلك، وأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد فيه ويسلمها إلى طراد.
فلما علم مضر ومهارش قصده لهما سارا عن المذار، فتبعهما، والحر شديد، فكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فكان من لطف الله به أن بني أسد اشتغلوا بجمع أموالهم وإبعادها، وبقي الحسن بن دبيس فقاتل قتالاً شديداً، وقتل جماعة من الديلم والأتراك، ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم، وصان حرمهم ونساءهم، فلما نزل في خيمته قال: الآن ولدتني أمي؛ وبذل الأمان لمهارش ومضر وأهلهما، وأشرك بينهم وبين طراد في الجزيرة ورحل.
وأنكر على سلطان الدولة فعله ذلك، ووصل إلى واسط والفتن بها قائمة، فأصلحها، وقتل جماعة من أهلها.
وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد، فسار إليها، فدخلها أواخر شهر ربيع الآخر، فهرب منه العيارون، ونفي جماعة من العباسيين وغيرهم، ونفي أبا عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم يكن قبل ذلك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله.
فمن ذلك أن رجلاً من المستورين أغلق بابه عليه خوفاً منهم، فلما كان أول يوم من شهر رمضان خرج لحاجته، فرآهم على حال عظيم من شرب الخمر والفساد، فأراد الرجوع إلى بيته، فأكرهوه على الدخول معهم إلى دارٍ نزلوها، وألزموه بشرب الخمر فامتنع، فصبوها في فيه قهراً، وقالوا له: قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال: هذا أول يوم في رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنني قد فعلت. فقالت: لا كرامة ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزناء وأنا أريد أن أصون أمانتي في هذا الشهر عن الكذب! فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد.
ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد الأتراك والعامة، فانحدر الأتراك إلى واسط، فلقوا بها سلطان الدولة، فشكوا إليه، فسكنهم ووعدهم الإصعاد إلى بغداد وإصلاح الحال.
واستحضر سلطان الدولة ابن سهلان، فخافه ومضى إلى بني خفاجة، ثم أصعد إلى الموصل فأقام بها مدة، ثم انحدر إلى الأنبار ومنها إلى البطيحة. فأرسل سلطان الدولة إلى البطيحة رسولاً يطلبه من الشرابي، فلم يسلمه، فسير إليها عسكراً، فانهزم الشرابي، وانحدر ابن سهلان إلى البصرة، فاتصل بالملك جلال الدولة، وكان الرخجي قد خرج مع ابن سهلان إلى الموصل، ففارقه بها، وأصلح حاله مع سلطان الدولة وعاد إليه.

.ذكر غزوة يمين الدولة إلى الهند:

في هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند غازياً، واحتشد وجمع، واستعد وأعد أكثر مما تقدم.
وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنوج، وهرب صاحبها منه، ويلقب رآي قنوج، ومعنى رآي هو لقب الملك كقيصر وكسرى، فلما عاد إلى غزنة أرسل بيدا اللعين، وهو أعظم ملوك الهند مملكةً، وأكثرهم جيشاً، وتسمى مملكته كجوراهة، رسلاً إلى رآي قنوج، واسمه راجيال، يوبخه على انهزامه، وإسلام بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما، وآل أمرهما إلى الاختلاف.
وتأهب كل واحد منهما لصاحبه، وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل راجيال، وأتى القتل على أكثر جنوده، فازداد بيدا بما اتفق له شراً وعتواً، وبعد صيتٍ في الهند، وعلواً، وقصده بعض ملوك الهند الذي ملك يمين الدولة بلاده، وهزمه وأبا أجناده، وصار في جملته وخدمه والتجأ إليه، فوعده بإعادة ملكه إليه، وحفظ ضالته عليه، واعتذر بهجوم الشتاء وتتابع الأنداء. فنمت هذه الأخبار إلى يمين الدولة فأزعجته، وتجهز للغزو، وقصد بيدا، وأخذ ملكه منه، وسار عن غزنة، وابتدأ في طريقه بالأفغانية، وهم كفار يسكنون الجبال، ويفسدون في الأرض، ويقطعون الطريق بين غزنة وبينه، فقصد بلادهم، وسلك مضايقها، وفتح مغالقها، وخرب عامرها، وغنم أموالهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، وغنم المسلمون من أموالهم الكثير.
ثم استقل على المسير، وبلغ إلى مكان لم يبلغه فيما تقدم من غزواته، وعبر نهر كنك، ولم يعبره قبلها، فلما جازه رأى قفلاً قد بلغت عدة أحمالهم ألف عدد، فغنمها، وهي من العود، والأمتعة الفائقة، وجد به السير، فأتاه في الطريق خبر ملك من ملوك الهند يقال له تروجنبال قد سار من بين يديه ملتجئاً إلى بيدا ليحتمي به عليه، فطوى المراحل، فلحق تروجنبال ومن معه، رابع عشر شعبان، وبينه وبين الهنود نهر عميق، فعبر إليهم بعض أصحابه وشغلهم بالقتال، ثم عبر هو وباقي العسكر إليهم، فاقتتلوا عامة نهارهم وانهزم تروجنبال ومن معه، وكثر فيه القتل والأسر، وأسلموا أموالهم وأهليهم، فغنمها المسلمون، وأخذوا منهم الكثير من الجواهر وأخذ ما يزيد على مائتي فيل، وسار المسلمون يتصون آثارهم، وانهزم ملكهم جريحاً، وتحير في أمره، وأرسل إلى يمين الدولة يطلب الأمان فلم يؤمنه، ولم يقنع منه إلا الإسلام، وقتل من عساكره ما لا يحصى.
وسار تروجنبال ليلحق ببيدا، فانفرد به بعض الهنود فقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى يمين الدولة يبذلون له الطاعة والإتاوة. وسار يمين الدولة بعد الوقعة إلى مدينة باري، وهي من أحصن القلاع والبلاد وأقوها، فرآها من سكانها خالية، وعلى عروشها خاوية، فأمر بهدمها وتخريبها وعشر قلاع معها متناهية الحصانة، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، وسار يطلب بيدا الملك، فلحقه وقد نزل إلى جانب نهر، وأجرى الماء من بين يديه فصار وحلاً، وترك عن يمينه وشماله طريقاً يبساً يقاتل منه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس، ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل، وسبع مائة وستة وأربعين فيلاً، فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال، فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمد أصحابه، حتى كثر الجمعان، واشتد الضرب والطعان، فأدركهم الليل وحجز بينهم.
فلما كان الغد بكر يمين الدولة إليهم، فرأى الديار منهم بلاقع، وركب كل فرقة منهم طريقاً مخالفاً لطريق الأخرى. ووجد خزائن الأموال والسلاح بحالها، فغنموا الجميع، واقتفى آثار المنهزمين، فلحقوهم في الغياض والآجام، وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدا فريداً وحيداً، وعاد يمين الدولة إلى غزنة منصوراً.